أنهى "جيرمي ديكايبر" فترة تدريب في بنك استثماري في لندن في بداية حياته المهنية، وكانت القاعدة المتّبعة في ذلك البنك هي العمل لساعات طوال. فكيف تمكن من التغلب على هذه القاعدة فيما بعد؟
أصبح ديكايبر مرهقاً بعد ثلاثة أشهر فقط من بداية العمل، لكن التجربة التي مر بها ساعدته في تشكيل قواعده الخاصة في مكان العمل بعد ذلك.
يقول "ديكايبر": "لقد أصبحت الأمور أكثر وضوحا لديّ بشأن الشخص المهني الذي أريد أن أكون، والأعمال التي أريد أن أقوم بها." ويشغل ديكايبر حاليا وظيفة كبير المحللين الماليين لدى شركة كوكاـ كولا في بروكسل.
لقد ضمِن ديكايبر لنفسه بضع سنين أخرى في وظيفته. والآن، ولكونه أباً لطفلين عمرهما عامان وأربعة أعوام، فقد طوّر استراتيجيات تتيح له ترك مقر عمله في وقت لا يتعدى السادسة والربع مساءً من كل يوم.
يقول ديكايبر: "أدرك ما يهمني. أريد أن أكون هناك عندما يحتاجني أطفالي. أستمع لما حصل لهم خلال اليوم، وأحكي لهم ما جرى لي خلال يومي."
إن الكثيرين ممن يتوقون لأن يعيشوا أياماً يسهل ترتيبها قد يجدون صعوبة بالغة في تحقيق هذا الأمر. ويعود السبب في ذلك للزيادة التدريجية في أعباء العمل التي تتراكم عليهم.
إنهم ضحايا للإضافات المستمرة والتوسع في المهام المطلوبة في العمل، أو ما يُعرف بظاهرة "زحف النطاق"، والتي تعني اتساع نطاق مشروع أو عمل ما بشكل يتجاوز الخطط المسبقة. وتبدأ تلك المسألة تقريباً دون أن يلاحظها من يقع تحت تأثيرها.
فبعد أن يوافق الأشخاص على القيام بعمل إضافي كبير لمرة أو مرتين، سيكون هؤلاء أول من يُطلب منهم إنجاز عمل إضافي آخر ـ حتى وإن كان ذلك خلال العطلة الأسبوعية، أو في أواخر الليل، أو أثناء التمتع بالإجازات السنوية، وما هي الحصيلة إذاً؟ ستصبح تلك المهام الإضافية جزءاً من المهام الاعتيادية بمرور الوقت.
لكن، هل الخطأ خطأهم؟ ربما يعاني الأشخاص الذين يواجهون تلك الظاهرة باستمرار من مشكلة وضع الضوابط والحدود للأمور. من الطبيعي أن توجد حالات محددة كأن يطلب منك المدير أمراً ما، فيكون ردك على الدوام بالإيجاب. لكن في بعض الأحيان يمكنك، بل وينبغي عليك، أن ترد بكلمة "لا" مدوية.
Image copyrightThinkstock
يقول براد ورثذلي، استشاري في خدمة العملاء وقيادة الأعمال وتحفيز العاملين، ويقع مقر عمله بالقرب من سياتل في الولايات المتحدة الأمريكية إن ظاهرة "زحف النطاق" تلك ربما تتولد نتيجة لتدني تقدير الذات.
ويضيف: "إذا كنت تنظر لنفسك بطريقة متدنية، فإنك ستنهك نفسك في العمل، وستؤدي أعمالاً إضافية."
تخلّ عن عقلية إرضاء الآخرين
من الخصال المشتركة لأولئك الذين يقعون ضحية لظاهرة "زحف النطاق" أنهم يسعون لنيل رضى الآخرين.
يقول ورثذلي: "إن الجانب المؤسف لمحاولة إرضاء الآخرين هو أنك تريد من الجميع أن يحبوك ويحترموك، وأن تزيل زخم العمل عن كاهل الآخرين. تريد أن تضحي لأجل فريق عملك."
ويضيف: "لكن مع الأسف، عندما تأخذ عبء عمل غيرك فإنك تسلبهم فرصة التعلم واكتشاف الذات والثقة بالنفس والثناء. يعتقد الذين يحاولون إرضاء الآخرين أنهم يساعدون زملاءهم عن طريق إنجاز كل شيء ولكل زميل."
في النهاية، تؤدي هذه العقلية إلى الإرهاق أو الإنهيار. يكمن سبب ذلك في استحالة إرضاء الجميع. إذا أخذنا هذا الثمن الباهض في الحسبان، فإن البعض سيكون قادراً على ترويض طبيعته لإرضاء الآخرين بشكل أفضل، والاسترخاء وترتيب الأوقات في العمل.
املك زمام الأمور وأطلب المساعدة
يمكن لظاهرة "زحف النطاق" أن تؤدي إلى الشعور بأن الأمور أصبحت خارج السيطرة، وأنك مغلوب على أمرك تماماً. يشعر ضحايا هذه الظاهرة أنهم غير قادرين على إكمال القيام بمشروع ما، حيث يتسارع زخم العمل لديهم.
عندما تنهمك في عدة مسؤوليات في آن واحد، وتضيف إليها المزيد، فإنك ستحتاج إلى وقت أكثر لكي تحافظ على سير الأمور بشكلها الطبيعي.
ربما لا يتمكن الشخص الذي يعاني من تلك الظاهرة من فرض قيود على مقدار العمل الممكن إنجازه إنسانياً.
Image copyrightThinkstock
إن الاحساس بفقدان السيطرة على الأمور يتفاقم لوجود شعور بالخوف من التغاضي عن شيء مهم، أو الخوف من أن ينحرف مشروع ما عن مساره، أو من ارتكاب خطأ ما يصب في صالح شخص آخر، بينما يضرّ كل ذلك بحياة هؤلاء المهنية.
إنه شعور مألوف لدى من يعملون لحسابهم الخاص، ممن يقلقون من أن يعمد العميل إلى تكليف شخص آخر بإنجاز المهمة إذا ما رفض هو القيام بها.
أضف إلى ذلك أن العاملين الشباب يعانون من مشكلة التسليم بحاجتهم إلى المساعدة. ذلك ما تقوله "ماري ـآن رينيل"، مديرة التنمية في كلية التربية وعلم النفس بجامعة نافارا في مدينة بنبلونة الاسبانية.
وتقول رينيل: "في المستويات الدنيا في فريق عمل ما، يتخوف العاملون كثيراً من أن يكون موقفهم في خطر. وبالتالي، فإنهم يأخذون على عاتقهم القيام بعمل الكثير دون أن يفصحوا عن ذلك. في الحقيقة، إن ذلك يؤدي إلى ردود فعل سلبية جداً بين أعضاء فريق العمل، لأنهم سيصابون بالإرهاق ويتعرضون إلى تعليقات لاذعة، وربما تنقطع سبل التفاهم بينهم.
وتوصي "رينيل" بأن يأخذ العاملون موقعاً في خط المواجهة ولا يهابون طلب المساعدة عندما يحتاجون إليها. من المؤكد أن الخيار الأفضل هو الحفاظ على سمعتك، وليس محاولة إنجاز شيء يتجاوز قدراتك، ولا تتمكن من أن تنجزه بشكل جيد.
سيكون للوسيلة التي تعبر بها عن مرادك وقع مؤثر، أيضاً. يجب أن لا تعبّر عن التحدي والمجابهة. إذا كنت سترفض عملاً إضافياً يُطلب منك، يجب أن يكون ردك بالنفي أمام مسؤولك ردا دبلوماسياً.
وتضيف "رينيل": "ينبغي على مديريك أن يظنوا بأنك استباقي وترغب في تقبل المشاريع أو المهمات الجديدة والتفكير في حلول جديدة. لكن في نفس الوقت، عليهم أن يعلموا أنك واقعي فيما يخص مقدار العمل الذي يمكنك إنجازه."
التخطيط، ووضع الأولويات والحدود
ربما يكون تأثير "لا" أفضل بشكل فعال فيما يخص ترتيب الأولويات وتخطيط المهام. على سبيل المثال، تعوّد "ديكابير" على البقاء في مكتب العمل حتى الساعة السابعة أو الثامنة مساءً بدون أن تكون لذلك أية تبعات.
Image copyrightThinkstock
ويعود السبب في ذلك إلى أنه قام وزوجته بترتيب حياتهما ليلائم الجدول الزمني للعمل. إلا أن كل ذلك تغير عندما رزقا بالطفلين. يقول ديكابير: "تغيرت جداول العمل والأولويات أيضاً. إنه اختيار شخصي."
إنه يعيش الآن اختياراته هذه يومياً، وليس فقط باعتبارها فلسفة شاملة. مؤخراً، أصبح على "ديكايبر" تسليم عرض إلى الإدارة، وكان أمامه أسبوع واحد فقط لتحضيره. لم يكن يريد أن يعلق بمكتبه حتى وقت متأخر. لذا، قام بترتيب جدول عمل تضمن أوقاتاً واقعية لكي ينجز ذلك العرض.
يقول "ديكايبر" :"سألت عدداً من منظمي الاجتماعات فيما إذا كانت هناك ضرورة ملحة لحضوري تلك الاجتماعات. فإن لم يكن حضوري فيها ضرورياً، كنت ألغي الاجتماع أو أحاول دمج إجتماعين أو أكثر سوية. أعلم أن البعض يحضر جميع الاجتماعات التي يُدعون إليها. يتعلق الأمر على الدوام بالأولويات، وما هو الأهم في تلك اللحظات."
إن إلغاء بعض الاجتماعات واقتطاع الأوقات هي أمور يتمكن "ديكايبر" من القيام بها فقط لأنه بذل جهوداً حثيثة لينال ثقة زملائه في العمل.
يقول "ديكايبر": "إذا حصلت على ثقة الناس بك، فإنهم سيتفهمون وضعك للقيود والحدود. ولكن، لا يزال عليك أن تفي بالتزاماتك التي حددتها."