اليوم الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤م

علم التســـــــويق .. قِنــــاع أم إقنــــاع

٣١‏/١٢‏/٢٠١٥, ٨:٥٧:٠٠ م
الاقتصادية


       سجل علمُ التسويق نجاحاً بارزاً في استمرار دوران عجلة الإنتاج والخدمات، عبر تغيير سلوك الأفراد واتجاهاتهم واحتوائه لهم، وفق منهجية تحرك الحاجة النفسية وتستثير الشعور بالحرمان، قبل أن تقنعه بشراء المنتج.
ففي الأراضي الفلسطينية تمكن رجال التسويق من التمركز في السوق وجني الأموال بفضل توجيهات هذا العلم الذي يدرس البيئة المحيطة، ويدقق فيها ليلتقط الفرص قبل انطلاق المشروع أو المنتج نحو السوق.
هذه المنهجية العلمية لعبت دوراً في حماية وتصريف المنتجات، وسلّحت المنتجين والمستثمرين وسط عالم المال والأعمال المتزاحم والمعقد، وتحققت بفضله هوامش كبيرة من الأرباح.
وبالرغم من أهمية وبراءة هذا العلم ودوره الإيجابي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، نجد في كثير من الأحيان أنه يساء استخدامه، ويجرى تطبيقه بطريقة منقوصة وفاضحة تُرجح كفة المُنتج على حساب المستهلك عبر تغييبها ركن أساسي من أركان التسويق، وهو المسئولية الاجتماعية الداعية للاهتمام بصحة الإنسان، والحرص على مستقبل الأجيال، والحفاظ على البيئة، ومراعاة القيم والمبادئ الإنسانية.
ففي قطاع غزة وبخاصةٍ تم استغلال ارتدادات البيئة الكلية المتمثلة في الحصار الإسرائيلي المفروض منذ عام (2007م)، واكتشفت الشركات أن الفرص التسويقية بالاستثمار في انتاج السلع الأساسية مثل توفير الطعام والدواء، ونجحت بعضها في موائمة نشاطها، وغيرت من أهدافها لتحقق نجاحها، وتقدم بدائل تفوق في بعض الأحيان تلك المنتجات التي فقدت من الأسواق بسبب الحصار، وفي الوقت ذاته برزت خلال هذه الفترة وبشكل غير مسبوق ظاهرة الاحتكار وتكديس البضائع في المخازن والتلاعب بالأسعار، واستغلال تقلبات البيئة الخارجية واحتياجات المستهلك بدلاً من العمل على تحقيق المنافع المشتركة، وتم استخدام علم التسويق في أبشع صورة عبر استغلال الفئات الأكثر فقراً والتي عانت خلال الأعوام الأخيرة من ثلاث حروب متتالية لازالت آثارها مستمرة.
ووفقاً للمتابعة الميدانية نجد عدداً من المنشآت الصناعية والتجارية والشركات المستوردة ترتدي قِناع التدليس والغش وتغيّب معايير الإنتاج السليم، وتستعيض عنه بغلاف جذاب ودعايات جوفاء ووعود خرقاء، لتغليب تدفق النقدية على المعاني الأخلاقية.
وعلى سبيل المثال نجد بعض شركات توزيع الأدوية قد وظفت بعض خريجي الكليات العلمية لزيارة العيادات الخاصة والصيدليات، ونسج العلاقات معهم لتصريف الأدوية والعقاقير بعد تقسيم السوق وفقاً لمعيار السعر لتجد العقاقير والأقراص الأقل ثمناً عديمة الفائدة والفاعلية، وأصبح القطاع الصحي العفيف النظيف، وبشكل دراماتيكي يتحول إلى سوق تجاري يُولد الأرباح دون الاكتراث بسلامة ما يقدم من منتجات في منطقة من أكثر بقاع العالم تدهوراً لأوضاع حقوق الإنسان، حيث ناشدت وزارة الصحة مؤخراً بعدم استهلاك وتداول مّكملات غذائية مطروحة في الأسواق وحذرت من تسويقها؛ لأنها مغشوشة وغير المناسبة لصحة الإنسان. ومنها دواء مثبط للشهية ممنوع استخدامه عالمياً.
الملاحظات والمعلومات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي للسلطات الحكومية المختصة بالتفتيش والمتابعة، تشير للعديد من المهام التي تنفذها في مكافحة وملاحقة أصحاب المصانع والورش الصناعية والتجار الذين يستغلوا المواطنين بمنتجات تفتقر للحد الأدنى من السلامة، حيث لا يكاد أن يمر أسبوع بدون ضبط كميات من المنتجات المحلية والمستوردة لأسباب تتعلق بغياب المواصفات والجودة، وانتهاء الصلاحية، وهذا لا يُعفي مدراء التسويق من خلفها عن مسئولياتهم المهنية والأخلاقية. صحيح ان جهود السلطات المختصة واعدة وتسهم في حماية المستهلك لكننا نجد أن الكثير من الحالات يضبط فيها تجار التجزئة، والباعة المتجولين ليطبق عليهم الحد، فيما يبقى التاجر الكبير، والمستورد، وصاحب المنشاة الإنتاجية حراً طليقاً، مما يثير الشكوك والتساؤلات العديدة حول استقامة العدالة، وازدواجية معايير الملاحقة.
هذه الأخبار اعتدنا على سماعها، وسط حالة من الاستغراب والدهشة، ونتساءل ألهذا الحد وصل بنا الأمر كي نعطي الأولوية للربح والمال عل حساب القيم والمسئولية الاجتماعية. 
ربما أبرز حادثة شكلت صدمة للمجتمع هي مجزرة المطاعم التي تسللت للمستهلكين بأسماء رنانة وجذّابة وبحملات إعلانية ودعايات وعلاقات، وأسقطت من حساباتها المسئولية الاجتماعية، حيث صرح مؤخراً مسئول حكومي بغزة أن عدد من المطاعم تمارس الغش في الوجبات المقدمة للزبائن. 
وبعد هذا كله نتساءل لماذا الواقع الصحي يتراجع باستمرار؟ وأعداد المرضى في تزايد، ولماذا واقع المؤسسات الإنتاجية في تراجع مستمر؟ ولم تصمد بعض منتجاته في وجه المنتجات المستوردة. 
إن عالم المال والأعمال بحاجة إلى علم التسويق كونه يخطب ود ومشاعر المستهلكين، ويثير حماس الناس لتحقيق هدفه في تصريف المنتجات وتقديم الخدمات، وللمحافظة على دوران عجلة الإنتاج، كما نرى أن نتسلح بهذا العلم كونه ضرورة وطنية كي نتطور من مجتمع نامٍ إلى مجتمع متقدم، وبخاصة أننا نخوض حملة مقاطعة المنتجات (الإسرائيلية).  
 لكن يتحتم علينا تطبيق هذا العلم بكل أركانه، وبالأخص المسئولية الاجتماعية والتي هي ركن أساسي في علم التسويق الإستراتيجي الذي خطه العالمان (فيليب كوتلير) (وكيفن لان كيلر).
ولا شك أن علم التسويق يفرض على المنتجين مراعاة الجودة والصدق والأمانة والإخلاص، التي لها علاقةٌ بالشفافية والنزاهة واحترام حقوق الإنسان، وكم هو جميل أن توسع هذه المنشآت الإنتاجية من دعمها للفئات الهشة، وأن تراعي في نشاطها المتطلبات الاجتماعية.